بين رجل المعرفة ورجل السلطة

بين رجل المعرفة ورجل السلطة
بين رجل المعرفة ورجل السلطة

كتب المفكر والإعلامي والديبلوماسي الراحل واجد دوماني في العديد من الصحف والمجلات، وأغنى صفحاتها بما كتب عن الفكر والأدب والثقافة والإعلام والسياسة والصحة والإنسان وشؤون الحياة، بأسلوب يعتمد العمق والبساطة والسلاسة والأناقة في آن، وينبع من غنى الثقافة وغزارة الإطلاع وعمق التجارب.

بعض مقالاته يعود إلى الستينيات، ومع ذلك فإنّ القارىء يتفاعل معها وكأنها كتبت اليوم، ولقد اختار"لبنان 24" إعادة نشر هذا المقال، وعنوانه: "بين رجل المعرفة ورجل السلطة".

بين رجل المعرفة ورجل السلطة

هل تنشأ علاقة على مستوى الصداقة بين رجل المعرفة والفكر، وبين رجل السلطة والحكم؟؟

هل ينتفع الحاكم من ثقافة صديقه المفكر، فيوظفها في قنوات الدولة للخير العام..؟

ماذا يأخذ المفكر من السلطان؟؟ وماذا يأخذ السلطان من رجل الفكر..؟ أسئلة مطروحة.. في كل زمان ومكان.. ماذا يحدثنا التاريخ عن هذا الموضوع؟؟ لنستمع ما يقوله التاريخ عن هذه العلاقة، بل عن العلاقات التي نشأت بين رجال الفكر ورجال السلطة..

لنأخذ مثلاً العلامة ابن خلدون.. من خلال قراءتنا لسيرته الذاتية يتحدث ابن خلدون عن ولاة وأمراء وسلاطين وملوك، عاش معهم، ورافقهم، وتحدث إليهم، ويذكر من أحسن إليه منهم، ولكنه يطيل الحديث عن أساتذته وأصدقائه من العلماء ويعرب عن تقديره لهم، واهتمامه الشخص لسلوكهم.. من المعلوم أنه كان لابن خلدون بين بعض الحكام والملوك صداقات شخصية، لم تخل من الود والاحترام والتقدير.. وقد كتب عن تيمورلنك الذي ارتبط به في مرحلة من مراحل سلطاته بصداقة خاصة وعلاقة شخصية دفعه إلى أن يكتب عنه.. فصلاً مستقلاً بعنوان "لقاء الأمير تمر سلطان المغل والتتر" ثم الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر..

هذه الكتابة كانت توحي بالمنزلة التي يحتلها تيمورلنك من نفس ابن خلدون بالمقارنة مع مَن عرفهم قبله وبعده من رجال السلطة.. بل إن تأثر علاّمتنا بالأمير التتري دفعه إلى أن يجعل منه مادة ينقلها إلى كل ذي سلطان... ونتبيّن بالتالي أن اللقاء بين مؤلف تاريخ العِبر والأمير تيمورلنك كان من وجهة نظر ابن خلدون - على الأقل - أكثر من مجرد مواجهة عابرة بين حاكم ومحكوم، أو بين رعية خائفة وفاتك بطّاش.. إنه اللقاء التاريخي بين الفكر والسلطة، بل بين رجل المعرفة ورجل السلطة والحكم.

والتاريخ يحدثنا أيضاً عن لقاءات مماثلة.. حدثت وتطورت حتى على مستوى المجابهة والمعاداة.. مثلاً بين "أرسطوطاليس والإسكندر.. وبين بزرجمهر وكسرى إنوشروان، وبين المتنبـي وسيف الدولة وبين ماكيافيلي وسيزار بورجيا.. أما لقاء ابن خلون وتيمورلنك (الأعرج) فإنه يعيد إلى أذهاننا علاقة أبـي الطيب بسيف الدولة، وعلاقة المفكر الفلورنسي بالأمير الذي أوحى إليه في أشهر مؤلف له.. وقد لا تتشابه ظواهر الواقع التاريخية الصداقات بين مفكر وحاكم إلا أن الدوافع النفسية تظل واحدة ومتقاربة. ولقد كان لابن خلدون تصور للحاكم المثالي ذكرها في مقدمته المشهورة التي كانت من أحد روائع علم الاجتماع... وقد برهن ابن خلدون عن عقلية واعية وفاعلة، تحاول في ميدان السياسة إن تطوّر الواقع إلى الأفضل.. لقد أراد ابن خلدون أن يوجِّه "تيمورلنك" نحو أفضل الحكم.. ولقد استفاد ابن خلدون من تقربه لهذا الحاكم، وعرف عن قرب أسرار الحكم، وطريقة التعامل مع الرعية.. وعندما غضب تيمورلنك عليه، كان غضبه فرصة بلورت أفكار ابن خلدون، وأثارت تأملاته فسجلها في أسفار ما تزال علامة بارزة على الدهر.. أوَليس هذا الغضب.. غضب فوضى الحكام على بعض أصدقائهم من المفكرين رحمة يدفعهم إلى تدوين وإعلان كثير من الحقائق التي تفيد وتنفع المجتمع..

وبعد! فرجل السلطة الحكيم يعرف كيف يقطف من ثمرة شجرة المعرفة التي تتدلّى ثمارها من صاحبها، فيستثمرها للخير العام..

ورجل المعرفة إذا خلص للمعرفة والفكر، وتحرّر من طموحاته وأغراضه، كان له أن يحقق الصورة المثالية التي رسمها في وجدانه لرجل السلطة..

ولكن أين؟ ومتى؟ يتحرر الإنسان من نوازعه وطموحاته وتطلعاته حتى لو كان هذا الإنسان رجل فكر ومعرفة.. ناهيك إذا كان صاحب سلطة..!!

لم يستطع المتنبـي أن يتحرّر من نوازعه وطموحاته مع سيف الدولة الحمداني.. وكافور الأخشيدي.. كذلك "ماكيافيلي" المفكر السياسي، كان في نظره أن الحاكم الذكي هو الذي لا تعيقه الأخلاقيات ولا المثاليات المتعارف عليها من تحقيق أغراضه ومصالحه هكذا كان يقول لـ سيزار بورجيا وينصحه بعبارته المشهورة "الغاية تبرِّر الوسيلة"..

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (صدق الله العظيم).

فالتقوى ليست محصورة لدى رجل المعرفة، كما الفجور وخاصة أمام النوازع البشرية..

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى 2024 عام الأحداث التاريخيّة