لم يرحم الهجوم القاسي على منطقة الغوطة الشرقية أحداً، فهو لا يستهدف المستشفيات والأسواق فحسب، بل استهدف العاملين في مجال الإنقاذ الطبي وأسرهم أيضاً.
ويصف السكان والعاملون في المجال الطبي الهجوم الذي تدعمه الضربات الجوية الروسية بأنَّه إبادةٌ تهدف إلى إخضاع المعارضين في الضاحية، وإجبارهم على الاستسلام غير المشروط. وذكرت منظمة الخوذ البيضاء للإنقاذ والدفاع المدني، أنَّ الهجوم المستمر أدى إلى مصرع أكثر من 250 شخصاً، منذ بدأ صباح يوم الإثنين 19 فبراير، بما في ذلك واحد من أعضائها، بحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.
استهداف عمال الإنقاذ
وقال سراج محمود المتحدث باسم منظمة الخوذ البيضاء، إنَّهم "يستهدفون عمال الإنقاذ، والمستشفيات، ومعدات الطوارئ، وسيارات الإسعاف. الهدف الرئيسي الآن للنظام السوري هو تدمير البنية التحتية المدنية داخل الغوطة".
توثق الكاميرات التي يرتديها رجال الإنقاذ التابعون للمنظمة الأهوالَ اليومية التي يُحدثها الهجوم المفاجئ توثيقاً مباشراً، إذ تسقط البراميل المتفجرة والصواريخ، ويظهر الضحايا الملطَّخون بالدماء كالموتى الأحياء من بين غيوم الرماد. وتسجل المنظمة أعداد وفيات أفرادها، وأطفالهم، وحتى أحباءهم الذين أخرجتهم من تحت الأنقاض، بحسب الصحيفة الأميركية.
قُتل فراس جمعة، وهو أحد المتطوعين بالمنظمة، يوم الثلاثاء 20 فبراير، في هجومٍ "مزدوج"، وهو هجومٌ يتضمن ضربةً جويةً ثانيةً تستهدف عمال الإنقاذ وسيارات الإسعاف. وأدَّت هذه الهجمات إلى مقتل 4 من عمال الإنقاذ في الغوطة خلال الشهرين الماضيين، وفقاً لما ذكرته منظمة الخوذ البيضاء، بحسب الصحيفة الأميركية.
يُذكر أنَّ الغوطة التي تضم 400 ألف شخص، وثلاث مدن، و14 بلدة، تخضع لحصارٍ عسكري منذ خمس سنوات، اشتدَّ مؤخراً ليمنع عنها المعدات الطبية المناسبة وغيرها من الضروريات.
وأطلق المعارضون في الأيام الأخيرة وابلاً من قذائف الهاون على أحياء دمشق التي يُسيطر عليها النظام، مما أسفر عن مقتل أكثر من 12 شخصاً، بحسب ما ذكره السكان ووسائل الإعلام السورية.
"سيُحوِّل الغوطة إلى جهنم"
ومع بدء هجوم المعارضين، هدَّد سهيل الحسن قائد قوات النمر التابعة للنظام، بأنَّه "سيحول الغوطة إلى جهنم"، وقال: "لن تجدوا لكم مُغيثاً. وإن استغثتم ستُغاثون بالزيت المغلي. ستُغاثون بالدم"، محذراً المعارضين في خطابٍ أُذيعَ في مقطع فيديو تصاحبه موسيقى مبتهجة.
ودُمر مركزٌ للخوذ البيضاء في مدينة دوما (أحد أكبر المراكز في المنطقة التي يسيطر عليها المعارضون) في غارةٍ جوية صباح اليوم، لكنَّها لم تسفر عن مقتل أحد.
وقال سمير سليم، وهو أحد المتطوعين: "حين نترك منازلنا كلَّ صباح، لا نتوقع العودة إلى ديارنا، إنَّما نتوقع أن نعود لنجد أطفالنا قد قتلوا. نتوقع العودة إلى ديارنا في أي لحظة لنجد أنَّهم هدموها فوق رؤوس عائلاتنا"، بحسب وول ستريت جورنال.
في وقتٍ سابق من هذا الشهر، وقبل موجة القصف الأخيرة، هرع فريق سليم إلى موقع هجوم صاروخي شنَّه النظام، وعندما تتبعوا عمود الدخان، وجد أنَّ المنزل المهدم الذي قادهم إليه هو منزله.
خارج المبنى المهدَّم، نادى سليم والدَه وأمَّه وإخوته وشقيقة زوجته، دون أن يجيبه أحد. لكن بمجرد أن بدأ في إزالة الأنقاض جانباً، وجد ابن أخيه البالغ من العمر 23 عاماً لا يزال حياً، ثم وجد والده وأفراداً آخرين من عائلته جرحى، لكن على قيد الحياة.
وفي غرفةٍ أخرى، وجد أمه البالغة من العمر 77 عاماً، والسقف الساقط مستقراً فوق جسدها ووجهها. فحص نبضَها وبؤبؤَيْ عينيها، ليجد أنَّها ماتت.
حاول سليم لمدة 12 دقيقة إخراج جثة والدته من تحت الأنقاض، وهو إجراءٌ ازداد صعوبةً نظراً لعدم وجود معدات متقدمة في الغوطة.
التقطت كاميرا خوذة سليم اللحظات التي كان يناشد فيها زملاءه على جهاز اللاسلكي، ليأتوا له بالمعدات اللازمة حتى يخرجها من تحت الأنقاض. كان يقول وصوته يرتجف: "يا إمي دخيلك لا تآخذيني. اجلب الرافعات ع السريع، أمي تحت الأنقاض. مشان الله تعال ع السريع. أنا عم أنقذ العالم وما قدران أنقذك يا إمي".
قد يموتون في أي وقت!
وقال سليم إنَّ المستجيبين يعرفون أنَّهم قد يموتون في أي لحظة. اقتيدَ جزءٌ كبير من السكان إلى أقبيةٍ متناثرة وخنادق مخبأة تحت الأرض، لكنَّ المنقذين يهرعون فوق الأرض من موقع هجومٍ إلى آخر لتأدية واجبهم الإنساني، بحسب الصحيفة الأميركية.
وأظهر مقطع فيديو آخر سجلته كاميرا خوذة أحد رجال الإنقاذ، يوم الثلاثاء، ونُشر على تويتر مشهد ما حدث بعد غارةٍ جوية مباشرةً. كانت الشوارع مغطاة بالدخان الرمادي، بينما يحاول رجال الإنقاذ تمشيط الحطام المشتعل.
وقال مرتدي الكاميرا لزملائه: "خُذ من هم ما زالوا على قيد الحياة. هل ماتوا؟"
وفي وقتٍ لاحق، أشعلت غارة جوية أخرى الشارع بكُرةٍ من اللهب، فإذا بالكاميرا تتأرجح بعنفٍ إلى اليمين واليسار.
فصاح الرجل: "اذهبوا، اذهبوا"، محذراً الآخرين: "فقط اذهبوا".